الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: فتوح الشام (نسخة منقحة)
قال ثم قصدوا الصليب وكان اللعين شهرياض لما صف الصفوف أقام حول الصليب الاعظم اثني عشر ألف فارس كلهم لبس الزرد وترك امامهم حسكا من حديد حتى لا يصل إليهم أحد فلما حمل خالد وأصحابه وقربوا من الصليب داست خيولهم على ذلك الحدسك فانكبت على وجوهها فوقعوا عن ظهورها فانكبت عليهم الروم بغيظهم وحنقهم فأخذوهم بالاكف لأنهم وقعوا عن ظهور خيولهم من الحسك فأخذوهم عن آخرهم وارتفعت العطاعط من كل جانب وعملت المرهفات القواضب فلما نظر الأمير عياض بن غنم ما نزل بخالد ومن معه صعب عليه واشتد لديه وقال في نفسه يا ابن غنم ما يكون عذرك بين يدي الله وقد مضت هذه السادة تحت رايتك فصاح باعلى صوته يا معاشر المسلمين احملوا ولا تمهلوا ايقظوا هممكم وعجلوا واستخلصوا السادة من الاسر واطلبوا من الله النصر.قال فلما صاح عياض أوقفوا خالدا ومن معه أمام الصفوف فتأسف ابن وضاح بن مجيد بن نافور بن عمر بن سالم بن النابغة الذبياني وكان من أفصح الناس لسانا وأجرئهم جنانا وأحدهم لسانا وأعلمهم بيانا وكان حليفا لخالد بن الوليد رضي الله عنه.فبرز يومه بمرج رغبان وقال: أيها الناس أن الصبر والثبات جندان فلا يغلبان وهذا يوم يا له من يوم وما ترون من نخواتكم ومروءتكم ودينكم أن تدعوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في يد العدا فاستنقذوهم من الردى واتقوا الله الذي إليه مصيركم واعلموا أن ترك الأشياء النفيسة لا يليق إلا بالنفس الخسيسة أما تحققتم أن الدنيا تئول إلى الزوال والفناء والآخرة هي دار النعيم والبقاء أما علمتم أن الهمم العلية الروحانية والأشباح الجسمانية عولت على الانتقال من الدنيا الساحرة إلى دار الآخرة وقالت لا بد من الرحيل لأن البقاء في الدنيا قليل فتزودوا معاشر الأرواح فقد قرب الرواح والقصد منكم قد عرفناه ومرادكم قد فهمناه وإن سفركم سفر شاق يحتاج إلى زاد ورفاق قالوا: فما الزاد الذي نكثر منه ولا نعدل عنه قيل لهم الزاد الاقوى في وتزودوا فإن خير الزاد التقوى قالوا: أما هذا الزاد فمنا من يقدر عليه وما منا من لم يقدر عليه قيل إياكم والتعرض لهذا السفر بغير أعمال واعملوا ليوم لا بيع فيه ولا خلال فلما تزودوا أخلصوا ومن جيفة الدنيا تخلصوا خلع عليهم خلع الأنعام وتوجهم بتاج العز والاكرام وجعل لهم الفردوس منزلا وقال في حقهم: {كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً} [الكهف: 107] واسمعوا ما قال فيهم الملك المقتدر: {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ} [الأحزاب: 23] قال فعندها حملوا بأسرار صافية وهمم وافية وطعنوا في صدرو الرجال ورفرفت على رؤوسهم طيور الآجال ووضعوا السيف في الروم وجعلوه عليهم يوما مشئوما قال: ولم يزل القتال بينهم بقية يومهم إلى الليل وانفصلوا عن القتال ورجع المسلمون وهم متأسفون على اسر خالد ومن معه فإنهم لما وقعوا في الأسر وانفصل الناس من القتال وجن الليل ارسلهم الملك شهرياض إلى رأس العين مع حاجبه نقيطا بن عبدوس ومعه ألف فارس وأمره أن يسير بهم في الليل ويجد بهم في السير وإن يسلمهم إلى وإلى رأس العين قال فسار بهم ولم يطلع الفجر إلا وقد وصل بهم إلى رأس العين وأرسل من يعلم الوالي بالقصة فخرج في موكبه للقائهم ووضع الصايح في رأس العين بقدومهم فما تخلف أحد وكان لهم يوم مشهود فألقاهم الوالي في الكنيسة العظمى التي هي جامع اليوم وأوثقوهم في الحديد.قال: حدثنا فاهم اليشكري عن بشار بن عدي عن سراقة بن زهير عن خزيمة بن عازم عن جده عبد الله بن عامر قال أنه لما فتح الرها وحران وسروج صلحا اجتمع يوقنا برودس ومعه اصحابه فقال اعلموا أن الله سبحانه وتعالى قد فتح علينا هذه البلاد وإن رأس العين مدينة عظيمة وأهلها قد استعدوا للقتال وآلة الحصار وربما صعب أمرها وعسر فتحها على المسلمين وإني معول أن أهب نفسي لله واسير مع أصحابي فلعلي أن أحصل في داخل المدينة ولعل الله أن يفتحها على يدي فقال له سعيد بن زيد: قوى الله وسدد أمرك قال: وعول على المسير في تلك الليلة وإذا بعيون المسلمين.قد أقبلت إلى حران يخبرون أنه قد أتى عاصم بن رواحة المتنصر في خمسمائة فارس من قومه من اياد الشمطاء.وكان قد وصل مع قومه إلى قسطنطينية وقد ورد على الملك هرقل كتاب عمر بن الخطاب رضي الله عنه بأن يبعدهم عن دياره فأبعدهم عن أرضه فتفرقوا في كل موضع وأتى منهم عاصم بن رواحة إلى هذا الملك شهرياض في خمسمائة فارس وكان الملك يحبه ولما وصل إلى البرية كتب إلى الملك يعرفه أنه خرج من بلاد القسطنطينية وأتىقاصدا إلى بلاده وخدمته وبعث الكتاب مع رجل من بني عمه اسمه رفاعة بن ماجد فوصل إلى الملك وأعطاه الكتاب ففرح الملك بقدومه وأمره أن يعجل في الحضور وأرسل إلى والي رأس العين بأن يخلي له دارا ينزل فيها إذا قدم مع أصحابه فلما سمع يوقنا ذلك الخبر من عيونه فرح وقال من أي طريق يأتون قال من طريق سروج وبقي بينكم وبينه ليلة واحدة فخرج يوقنا ومن معه وصحبهم عمرو بن معد يكرب وسعيد بن زيد ومن معهم وكمنوا لهم في موضع قد علموا أنهم لا بد لهم من العبور فيه فلما ضرب الليل سرادقات ظلامه ونصب على الخافقين أعلامه إذ أقبلت خيول القوم وسمعوا حسهم فصبروا حتى توسطوهم من كل جانب وقصد كل واحد واحدا فأخذوهم عن بكرة أبيهم ولم ينفلت منهم أحد واحتووا على أثقالهم ورحالهم ورجعوا إلى مكمنهم ونزلوا عن خيولهم.فقال لهم سعيد بن زيد: من أميركم حتى أخاطبه فأشاروا إلى عاصم بن رواحة فقال له سعيد بن زيد: يا بن رواحة أي مناسبة بينكم وبين الروم حتى لذت بهم وملت إلى جانبهم وتركت العرب العرباء فأنت منا والينا وحسبك حسبنا ونسبك نسبنا لأن أنمارا وايادا وبيعة ومضر كلها ترجع إلى نزار بن معد بن عدنان وإن الله تعالى قد أختارهم لسكنى حرمه وجوار بيته وقد كنا نعبد الأصنام ونستقسم بالأزلام ونتبع طرق الحرام حتى بعث الله نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وأنزل عليه: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214] وأمره بالمقام في دار الخيزران ثم دعاهم إلى عبادة الملك الديان وقال لهم: أنتم من ولد اسماعيل بن إبراهيم الخليل وقد فضلكم بارىء النسم بسكناكم البلد الحرام والبيت المعظم وزمزم والمقام فمالي أراكم على الأصنام عاكفين والأزلام حالفين وفي ثياب الكفر رافلين أما لكم عقول تردكم أما لكم بصائر تصدكم أما أنتم من ذوي الأحلام الراجحة أما أنتم من ذوي الآراء الشامخة ألهذا خلقتم أم به أمرتم نحتم الأصنام من الأحجار وسلكتم طريق الفجار وكفرتم بالواحد الجبار الذي سير البحار وأجرى الفلك الدوار وخلق الليل والنهار أما تشكرون الصانع الذي جعل النجوم طوالع وكل إليه راجع قالوا: يا محمد من أمرك أن تسب آلهتنا.وتسفه أحلامنا قال: يا قوم العلم أمرني والعقل بصرني أما علمتم أنه من نظر في المصنوعات وتدبر علم أن لها صانعا لا يتغير فالنظر في المخلوقات حكمة والتنكر في صنعه والاقرار بوحدانيته نعمة والإيمان به رحمة.قالوا: فمن تعبد قال أعبد الذي فطرني وصورني وشرح خاطري ونور بصائري وخلق المخلوقات وقدر وصنع المصنوعات وأنزل الأرزاق بقضاء وقدر ليس في مشيئته كيف ولا في أقضيته حيف يقول ولا يتلفظ ويريد ولا يظهر ويسمع ويبصر تعالى عن المكان والأين والشبيه والبين وقال: لا تتخذوا الهين اثنين أما علمت يا ابن رواحة أن ديننا هو الحق وقولنا هو الصدق وما بعث الله نبيا إلا وأمر أمته باتباع دين الإسلام قال الله تعالى في القرآن.: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [آل عمران:67] وقال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} [المائدة: 3] وقال: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ} [الحج: 78] وأنت تعلم الآن أنكم في قبضتنا وأسرنا فإن آمنتم بالله وصدقتم برسالة نبيه صلى الله عليه وسلم كان لكم ما لنا وعليكم ما علينا وإن أبيتم ضربنا أعناقكم قال فلما سمع عاصم بن رواحة ذلك من كلام سعيد ابن زيد قال: وإن نحن رجعنا إلى قولكم واتبعنا دينكم يغفر لنا ربنا ما سلف من الاشراك في ربوبيته والسجود لغيره قال سعيد نعم لأن الإسلام يهدم ما كان قبله وجميع ما كنتم فيه لا يطالبكم الله به وتخرجون من الذنوب كما خرجتم من بطون أمهاتكم إلى الدنيا ثم تلاقوله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53] فلما سمع عاصم كلام سعيد قال: أنا أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله فلما نظر أصحاب عاصم إليه وقد أسلم أسملوا عن آخرهم ففرح المسلمون بذلك وقالوا: قد وجب علينا أن نطيب قلوب هؤلاء القوم ثم ساروا إلى حران وأنزلوهم وخلعوا عليهم.فقال يوقنا الآن فتحنا رأس العين ورب الكعبة فقال سعيد فكيف ذلك يا عبد الله قال سوف أريك بيان ذلك ثم إنه قال لعاصم بن رواحة في السر بينه وبينه أريد منك أن تشدني كتافا أنا وأربعين من أصحابي وتجعلنا على ظهور الجمال التي تحمل أثقالكم وتركب مع هؤلاء السادة يعني الأربعين الذين هم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتسيروا من ليلتكم هذه إلى رأس العين وتقولوا لواليها لما عبرنا الفرات خرج هؤلاء علينا فنصرنا المسيح عليهم فقتلنا من قتلنا واسرنا هؤلاء وأتينا بهم إليكم وإياك أن تمكنه أن يقتل واحدا منا وإذا أراد ذلك تقول له أن المصف بين يدي الملك وبين العرب ولا.ندري من يؤخذ من أصحابنا فيكون عندنا الفداء وتترك أصحابك بحران قال عاصم ولم لا نسير بأجمعنا وباصحابي كلهم فقال يوقنا أن الإسلام لم يتمكن بعد من قلوب القوم ونخاف أن أحدا منهم يغمز علينا فيفسد حالنا والثقة بكل أحد عجز فقال: والله لقد صدقت في قولك فنزل ببني عمه الخمسمائة في حران وإنما قال يوقنا ذلك ودبره ليكونوا على سبيل الرهائن قال فكتفوا يوقنا والأربعين من بني عمه وتزيا الصحابة بزي أياد الشمطاء وخرجوا من حران في الليل وطلبوا رأس العين فلما وصلوا إلى مكان يعرف بعلوا إذا بقرع حوافر الخيل فأخفوا أمرهم حتى وصلوا إليهم وإذا هم بأربعمائة عبد أسود وخمسين وهم يقرءون القرآن وبعضهم يسبح فاستقبلهم سعيد بن زيد ومن معه وكبرونا مثل تكبيرهم وقربوا منهم فإذا هم موالي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والمقدم عليهم دامس ابو الهول رحمة الله تعالى وكان السبب في قدومهم أنه لما بعث عياض بن غنم كتابا إلى أبي عبيدة يستنجده على القوم ويعلمه بمن قد اجتمع من الكفار بمرج رغبان فلما قرأ الكتاب أرسل دامسا ومن معه لنصرة الإسلام وكانوا بسميساط وبلادها ومنذ فتحوها استمروا بها حتى جاءهم كتاب أبي عبيدة فترك دامس على سميساط وبلادها من يثق به وجاء في العدة التي ذكرناها فلما لقيهم سعيد بن زيد سلم بعضهم على بعض وفرحوا باجتماع الشمل ونظر دامس إلى الجمال وعليها يوقنا وأصحابه فقال أظفرتم بهؤلاء في طريقكم فقال هذا يوقنا عبد الله وأصحابه قد باعوا نفوسهم لله.قال فلما سمع أبو الهول كلام سعيد سجد لله على قربوس فرسه وأتى إلى عبد الله يوقنا وسلم عليه فقال له: مرحبا بقوم طلقوا الدنيا بتاتا وزهدا وطلبوا مرضاة الله. ثم إنه قال لسعيد بن زيد يا صاحب رسول الله أشركونا معكم في هذه الحيلة قال: نعم ولكن اسحبوا هذه الجمال وأخفوا الدروع والعدد واحتزموا فوقها وسوقوا الجمال أمامكم كأنكم عبيدنا فإنه لا ينكر عليكم من رآكم قال ففعلوا كما أمرهم سعيد وأخفوا سلاحهم في وسط الجمال وأقبلوا على سوقها فلما وصلوا إلى الزليخة نزلوا هناك ولبسوا وتدرعوا ونشرت الأعلام والصلبان التي كانت مع اياد الشمطاء وداروا بيوقنا واصحابه وجعلوهم بينهم وساروا حتى قربوا من رأس العين فبعث سعيد رجلا من حلفائهم إلى والي رأس العين يبشره بقدوم عاصم بن رواحة واياد الشمطاء فلما وصل إليه الرسول خرج بالمواكب إلى لقائهم وقد اعلمه الرسول بقدوم يوقنا أسيرا ومعه أربعون من أصحابه فصاح الصائح بذلك فما بقي أحد إلا وخرج أمام الوالي والتقوا بالصحابة وهم بزي أصحاب اياد الشمطاء وقد داروا بعاصم بن رواحة وكان الوالي يحبه ويعرفه فترجل إليه وترجل عاصم وتعانقوا وأقبلت المواكب يسلم بعضها على بعض فقال الوالي كيف أخذت هؤلاء وهذا المارق يعني يوقنا فقال له: انا لما.وصلنا إلى الفرات وعدينا خرج علينا برجاله فقاتلناه وقاتلنا فنصرنا المسيح عليهم بعد ما قتلنا منهم خمسين رجلا وأخذنا هؤلاء وانهزم الباقي قال ففرح الوالي وأقبل على يوقنا يوبخه بكلام وهو لا يرد عليه والروم تشتمه وتسبه وهو لا ينظر إليهم ولا يكلمهم إلى أن دخلوا رأس العين وأمرهم أن يجعلوهم عند الأسارى في بيعة نسطوريا وقال لهم: احتفظوا بهم حتى نكاتب الملك ويرى فيهم رأيه قال فجعلوهم عند خالد واصحابه ثم أن عاصما قال للوالي أنت تعلم ما بيننا وبين هؤلاء القوم من العداوة وإن كانوا عربا مثلنا ونخاف إنك تجعل على حفظهم أحدا من الروم أو من الأرمن وإن يتحدثوا معهم باطلاقهم وتدخل المضرة على الملك وعليكم والصواب أن نجعل بعضنا في البيعة وبعضنا خارجا فإنه من أتى إلى الجهاد لا يركن إلى الراحة فإنه من تعب في الدنيا قليلا استراح في الآخرة طويلا قال فاستصوب الوالي رايه وأنزله في البيعة هو وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأضاف يوقنا إلى خالد.قال الواقدي: فحصل ستمائة فارس من المسلمين.قال الراوي: فلما استقروا في البيعة وجن الليل قام سعيد بن زيد إلى خالد وسلم عليه وبشره بالفرج فقال: يا ابن زيد لقد علمت بذلك منذ قيل أن يوقنا قد أتى به ومعه اربعون فنظرت بنور الإيمان فعلمت صحة ذلك قال: وإن الوالي بعث إلى الملك يبشره بأخذ يوقنا ومعه أربعون من أصحابه وقدوم عاصم بن رواحة ومعه خمسمائة من أصحابه فلما بلغه الخبر أمر بالبوقات فضربت فسمعت المسلمون بذلك فقالوا: ما ضربت البوقات إلا لأمر مهم إذ اقبل عباد بن بشير وهو متنكر وأتى إلى عياض بن غنم فلما رآه قام إليه وسلم عليه وقال: يا ابن بشير بم تبشرني أقر الله عينيك فلم يرد عليه شيئا حتى خلا به وحدثه بجميع ما جرى فلما سمع عياض بشارة عباد ابن بشير سجد شكرا لله فقال عباد ايها الأمير أن سعيد بن زيد ومن معه يسلمون عليك وعلى من معك ويقول لك أنجر المصف فلعل أن يفتح على يديك فما بينك وبين فتح رأس العين إلا أن تهزم القوم وقد فتحت فقال عياض توكلنا على الله.فلما جن الليل جمع أصحاب الرايات وحدثهم وقال لهم: لا تعلموا أحد مخافة من جواسيس الروم ولا يصبح الصباح إلا وأنتم على أهبة الحرب قال فما اصبح الصباح إلا والمسلمون قد أخذوا أهبة الحرب فلما طلعت الشمس وانبسطت على الأرض علت على الخيل ركابها وحملت بأصحابها وشبت من الحرب نارها وطار شرارها وقطعت الجماجم واستعرت الملاحم وصالت أسودها وتعفرت خدودها وصبرت على شدة حالها وحانت منها أحوالها وتدانت آجالها فهم في الحرب متوافرون وفي العدد والعديد متقاربون وفي الزحف إلى الفزع مختلفون والعجاج ثائر.والدم فائر والاسلاب مطروحة للضياع ولحوم القتلى رزق للطير والسباع ولقوة العمائم تشتكي منها الاسماع والشمس تضجر منها الجسوم والنفوس والحرب قد أخذت أمرا يقطع الآجال وقد شمرت عن ساق وسروال والوطيس قد حميت جوانبها واستحيت عين مجانبها والصفوف تدانت إلى الهياج وقد غيبهم غيم العجاج وكل مقدم قد شذ منه جيشه وتكدر بعد الصفو عيشه والخيل تكر كرات وتجتمع مرات والسيوف تقطع البيض والنفوس تكاد تميز من الغيظ والغبار قد سحب ذيلا زنجيا وانسبل وأسبل على الوهاد رداء سجيا والطيور قد حامت وكأن القيامة قد قامت واستقبل المسلمون هذا الحرب الخطير والضرام المستطير فحل بالروم العقاب وسمحوا بنفوسهم ولقواء اليم العذاب ونال المسلمون ما رغبوا فيه من حسن المآب.قال الواقدي: والتقى عبد الله بن عياض بن وائل وعبد الله بن قرط بالملك شهرياض وقد عول على الهرب وكل من في جيشه قد اشتغل بنفسه عن نصرته وليس عنده سوى عشرة من غلمانه فاطبق عليه عبد الله بن قرط وعبد الله بن عياض.قال الواقدي: ولم أدر أيهما كان أسبق بالطعنة فطعنه في صدره فأخرج السنان من ظهره فلما نظر غلمانه إلى ملكهم مجندلا ولوا على ادبارهم ونزل عبد الله فاحتز رأسه وجعله على رمحه وركب وصاح إلا وإن الملك قد قتلته فمن كان منكم يثبت للحرب فليثبت وصالت المسلمون على أعداء الله ووضعوا فيهم السيوف فقتل من قتل وانهزم الباقون بعدما اسروا منهم من أسروه وقد تركوا الاثقال على حالها والاموال والسرادقات فاحتوى عليها المسلمون.قال جديد بن ناشب الضيمري كنت مولعا إذ سكنت الحرب بعدد من قتل من الروم فاخذت مخلاة على عاتقي وملأت حجري حصى فكنت لا أمر بمقتول إلا وطرحت عليه حصاة ثم عددت الحصى فإذا هي ثمانون الفا وسبعمائة وخمسون وأما الأسرى فلا يحصيهم عدد فلما وضعت الحرب أوزارها أمر عياض بالاثقال: والأسرى إلى كفر توتا وبعثها مع الصلت بن مازن ومعه الف فارس وأمره أن لا يبرح منها حتى تفتح رأس العين قال ثم ارتحل عياض في أثر الوقعة إلى رأس عين وردة وبات ليلته يتلو القرآن وقال: ووصل المنهزمون إلى رأس العين وهم بأسوأ حال ووقع الصائح بجوانب المدينة بهزيمة الجيش وقتل الملك شهرياض فعظم عليهم وكبر لديهم واستوثق الوالي مرسيوس من المدينة والاسوار وعول على أنه في غداة غد يضرب رقاب المأسورين وكان من عادة الروم إذا قتل منهم ملك يقتلون عليه مائة أسير من أعدائهم فلما كان الغد ركب عدو الله مرسيوس الوالي وسط المدينة وأمر أن يؤتى بالأسرى وهم خالد ومن معه ليضرب رقابهم فأرادوا أن يأتوا بهم وإذا بعياض قد صبحهم.صباحا فاشغلهم عن ذلك ونزل على باب اسطاحون وهو الباب الشرقي وكان قد ضرب على الباب المذكور قبة من الديباج برسم عدو الله مرسيوس والى جانب القبة منجنيق عظيم يتعلق في حباله مائة رجل وكان صاحبه ابن عم الملك وكان اسمه مترقيس بن اشفكياص وكان ابوه هو الملك قبل شهرياض وهو صاحب الدنانير الاشفكياصية.قال: وإنما تقدم عياض بالمسلمين للقتال حتى يشغل أعداء الله عن خالد ومن معه بالمدينة فصاروا يرمون بمجانيقهم وسهامهم وكان قد وصل مع عياض غلام من أهل المدينة اسمه جميل بن سعد الداري وكان أرمى خلق الله بالنبل وكان قد وصلت له أم عجوز فلما كان ذلك قال: يا أماه اريد أن أجاهد هذا اليوم في الله حق جهاده فلعلي أن ألحق باخواني وجدي الذين قتلوا بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فودعها وسار فقالت يا بني سر والله ينصرك ويؤيدك قال ثم إنه تقدم ووقف وهو يتستر وكان قد شاع ذكره بين العرب وإنه كان ينظر إلى الطائر في الجو فيقول انني قد عولت أن أضرب هذا الطائر في موضع كذا فيضربه فيقع الطائر والضربة في المكان الذي ذكره فلما كان يوم قتال عين وردة تقدم وجعل يضرب البطارقة من أعلى السور فلا يقع سهمه إلا في فؤاد أو في حدقة حتى قتل ثلاثين بطريقا منهم من وقع إلى المدينة ومنهم من وقع إلى الخندق قال: وكشف برج الباب قال: وكان عدو الله مترقيس المتقدم ذكره صاحب المنجنيق ارمى خلق الله فجعل يعبر ويرمي فقال الناس لجميل بن سعد أيها الغلام أبعد لئلا يصل اليك حجر المنجنيق فأنا نخاف عليك منه فقال: يا قوم سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في كتاب الله العزيزم: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء: 78] ولا بد أن أثبت لهم ثم إنه رمى رجلا من الذين يجرون الحبال فقتله وثانيا وثالثا فقتلهما قال فهربت البطارقة عن الحبال وقالوا: لا طاقة لنا بالوقوف في هذا المكان من هذا الغلام فقال مرسيوس البسوا الدروع واستتروا ففعلوا وقعدوا في الحبال ورمى بحجر فوقع في رجل من بجيلة فقتله ولم يزل حتى قتل ستة رجال قال: وإن جميل بن سعد يرمي فلا تخطىء نباله وهو يقول واشوقاه إلى الشهادة وإن أصل إلى دار العلم والشهادة فنودي من سره أن اردت ذلك فبادر إلى ذلك ولا تخف ولا تحاذر وأطلق عنان كليتك في ميدان طلبتك وإياك والتخلف عن بابنا فمن ارادنا أردناه ومن أحبنا أحببناه.فقال ها أنا أتقدم وجناني في الحقيقة لا يتالم قد بعت منك نفسي فاقبل شراها فعسى أن آتي الجنة وأراها فقيل له: قد قبلناك فامرح وأطلق لسانك بشكرنا وافرح فمن باع نفسه منا لم يكن بمغبون واسمع ما سطرناه في الكتاب المكنون.{وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:169].قال فبينما هو كذلك إذ عبر عليه عدو الله ورماه وكذلك جميل قصده بنبلة فوقعت في صدره ومرت من ظهره ونظر جميل إلى الحجر وقد قصده فعلم أنه ميت فالتفت إلى ابن عم له اسمه رافع بن خالد و قال له: بلغ العجوز سلامي وأنشدها هذه الابيات وجعل يقول: قال: وعلم عياض بقصته فبكى رحمة لأمه وأمر به فدفن بعد ما صلى عليه وبلغ خبره إلى أمه فصبرت صبر الكرام وقالت يا بني عشت سعيدا ومت شهيدا وسلكت سبيل آبائك فرحمك الله وآنس غربتك ونفعني بك يوم القيامة ثم قرأت: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 156].قال: حدثنا معمر بن الجون النهائي وكان ممن حضر مع جده سراقة فتح رأس العين قال لما قتل بن سعد فرحت الروم وإن عدو الله مرسيوس صاحب الامر بعد شهرياض لما رأى أن المسلمين معولون على حصاره مضى في الليل إلى بيعة نسطوريا وصلى بها وقرب القربان وكان من بغضه للمسلمين قد صور على باب البيعة صورة رجل من العرب وكتب عليه هذا نبي العرب فكل من دخل البيعة يبصق عليه وكان في داخل البيعة صورة القيامة والميزان والصراط والجنة والنار وصور عيسى وبيده الصليب أمه تحت لوائه على باب الجنة قال فلما صلى قال لعاصم بن رواحة لقد أردت الليلة أن أقرب عشرة من هؤلاء العرب الأسرى في بيت المذبح فقال له عاصم: ليس هذا برأي أيها الملك حتى ترى ما يكون من أمر العرب وهذا بين يديك قال سكت وخرج وإن عاصما لم يترك في البيعة أحدا من الروم واستوثق من أبواب البيعة ودخلت الصحابة إلى بيت المذبح فوجدوا فيه سلاحا كثيرا مما كان يجتمع من النذور فأخذوه وعولوا على أنهم في صبيحة غد إذا اشتغل أهل المدينة بالقتال ليثورون في المدينة قال: ولما دخل الليل قاموا يذكرون الله وينظرون إلى تلك الصور المصورة وصفة القيامة والصراط والجنة والنار فقال عاصم بن رواحة لسعيد بن زيد الهرب إلى دين رسول.الله صلى الله عليه وسلم يزيد في الإيمان قال: نعم ويقرب إلى مقام إبراهيم إذا كان يوم القيامة يوم الحسرة والندامة وعصفت رياح الطامة وحشرت الخلق والورى وبرزت الجحيم لمن يرى وصفت صفوف العالمين وحييت جوانب المتقين الموقنين ونشرت رايات الصادقين ورفعت أعلام المحققين ونصبت منابر الانبياء والمرسلين وتصدرت مراتب الصديقين وفرحت أرواح الموحدين وضاقت أرواح الكافرين وزهقت نفوس المشركين وقيل بعدا للقوم الظالمين وذلت الملوك والجبابرة وطأطأت رؤوس الاكاسرة والقياصرة واستبشرت الابرار ويئست الفجار وناد مناد الملك الجبار: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر: 16] ألم نحذركم دار البوار ألم يأتكم الانذار ألم تسمعوا ما أنزل على السيد المختار: {قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ} [إبراهيم: 30]: {هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ} [المرسلات:38] هذا يوم العرض هذا يوم الجزاء هذا يوم الراجفة هذا يوم الازفة هذا يوم الفصل هذا يوم العدل فإذا غص الموقف بأهله وقدم كل ذي جهل بجهله وعضت الانامل اسفا وطارت القلوب لهفا ونادى المنادي يا معاشر المجرمين امتازوا فإن المتقين قد فازوا أما سمعتم في الكتاب المكنون: {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ} [يّس:59].فبينما هم قد كظمهم العطش ولحقهم الدهش وعظم الارق واشتد القلق وسال العرق ونادى المنادي وهم يسمعون قفوهم أنهم مسئولون قفوهم حتى يروا هيبتي ومملكتي قفوهم حتى يشاهدوا سلطاني وعظمتي قفوهم حتى يعرضوا علي قفوهم حتى أناقشهم الحساب أين من عصى وأجرم أين من طغى وظلم أنا الجبار الاعظم لا أرحم من لا يرحم أين أمة نوح اين من كان يغدو في البطالة ويروح اين أمة هود اين آل ثمود أين أمة التظليل أين أمة شعيب أين أهل الشرك والشك والريب أين أمة التوحيد أين اهل الصلاة والتمجيد أين أهل القرآن أين أمة راكب البراق أين أمة طاهر الاخلاق هلموا للعرض والحساب فقد تجلى رب الارباب لا ظلم اليوم أن الله سريع الحساب والمصطفى صلى الله عليه وسلم في كبكبة حشمته وموكب زينته على رأسه تاج الرضا مكتوب عليه بقلم الامضا: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى:5] وبيده لواء الحمد وبين يديه جنائب السعد وعن يمينه الانبياء وعن يساره الاولياء والملائكة وقوف بين يده وأهل الموقف ينظرون إليه وأمته يصلون عليه وقد تهللت وجوههم فرحا وقد أسبل عليه الإسلام سرباله وأوصل بهم حباله قد نادوا بهم بالتمجيد وازعجوا الموقف بالتوحيد وقد أضاء نور إيمانهم وعرضوا على ديانهم واستشهدهم على الامم فشهدوا فقبلت شهادتهم وغيبت عنهم نجوم الافلاس وأمنوا من الهول والباس ونادى مناديهم: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] وأهل الموقف ينظرون إلى جمالهم ويتعجبون من هيبة جلالهم.ويقولون لقد فاز من اتبع ملتهم وصدق شريعتهم قال مالك يوم الدين: {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} [الحجر:2] فإذا ورد مقامه اطال فيه هناك قيامه وبسط كف ابتهاله وبالغ في طلبه وسؤاله ويقول أسألك قبول شفاعتي في العصاة من أمتي.وإذا بالنداء وعزتي وجلالي لا أخلف لك وعدا ولا أنقض لك عهدا ولأرين أهل الموقف علو شانك ورفيع مكانك ولأعطينك حتى ترضى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى:5] قال فازداد عاصم إيمانا فلما كان وقت السحر وثبت الصحابة على اقدام الحزم والعزم وخرجوا على أهل المدينة فاستعانوا بالله وقالوا: اللهم انصرنا كنصر نبيك يوم الاحزاب وقال خالد: إياكم أن تفترقوا فتذهب ريحكم وأتقوا الله الذي إليه مصيركم واعلموا أن الاعداء يجتمعون عليكم والنساء يرجمنكم والشباب يقاتلونكم وإياكم أن تطمعوا أحدا في بحار الحرب بل اصبروا على مر الكرب والضرب وإنما يتبين صبر الرجال عند ملاقاة الاهوال وما نحن ممن يفزع بهجوم الآجال لانا قد تحققنا أن لكل منا أجلا لا يتعداه ومن خاطر بعظيم نال عظيما وهذه اسمها عظيم والجمع فيها أعظم وهي قصور ديار بكر وربيعة وقد حصلنا في وسط مدينة القوم فإن كنتم طالبين الظفر فاصبروا ولا تعجلوا فالصبر مقرون بالظفر والعجلة مقرونة بالزلل والصبر عاقبته النصر واعلموا أن هذه البيعة هي بيعتهم المعظمة ولا بد لهم من القدوم إلى الصلاة فإذا حصل وإليهم ههنا ومقدم عساكرهم أطبقنا عليهم من كل جانب وقصمناهم بالقواضب فإنه إذا قتلت الملوك وعظماء البطارقة فما يجسر بعدهم أحد أن يرفع يده وأما العوام فلا اعتبار بهم فقال عاصم بن رواحة لله درك أيها الأمير ما أخبرك بالامور والحرب ولقد تكلمت بالصواب وأحسنت في الخطاب فليقر كل واحد منكم في مكانه وأخفوا سلاحكم في أعيابكم فإذا اشتغل القوم في صلاتهم ثرنا عليهم ومددنا أيدينا إليهم فاستصوبوا رأيه قال: وكانت الصحابة في بيت كبير في البيعة كان برسم النذور وفيه شيء من الامتعة لا يثمن لكثرته.قال الراوي: حدثنا عبد الله بن يانس عن جده فياض بن زيد وكان من جملة من ذكرناهم من الصحابة وحضر فتوح رأس العين قال هكذا كانت قصتنا وكنا قد دبرنا هذا التدبير ثم رجعنا عنه وكان من الامر المقدر أن ذلك اليوم الذي رجعنا فيه لم يقاتل فيه أحد من جند رأس العين وكان له سبب نذكره.قال الراوي: كان من قضاء الله السابق في خلقه أنه كان للوالي أخ عاقل لبيب له راي وتدبير وكان يعرف من الحكمة التي وصاه بها فهرايس أحد حكماء اليونانيين وقد عرف من علم الملاحم وكان صاحب سر شهرياض فما كان يفعل شيئا إلا بمشورته وكان قد نهاه عن قتال العرب و قال له: ما أرى لك في قتالهم خيرا والامر عليك لا.لك فلما كان من الملك ما كان وقتل جيشه ورجع الأمر إلى مرسيوس قال له أخوه الحكيم: وكان اسمه اسالوس معناه حكيم زمانه اعلم يا أخي أنه ليس ينبغي للعاقل اللبيب الفاضل الاديب أن يرمي نفسه في غير مراميها ولا ينقاد بزمام شهوة النفس فإنه من أطاع نفسه هوى في مهاوي الذل ونسب إلى الجهل فإن الشهوة عرض واتباع الهوى مرض والاستمتاع بالملذات سبب الهلكات ولا خير في لذة تؤدى إلى الفناء وتورث صاحبها العناء الشهوة حين والامل شين والاستمتاع بين والتمتع دين وحب الدنيا مين وما ندم عاقل ولا ساد جاهل ولا وفق عجول ولا أرى لملول ولا سعد خائن ولا صدق مائن ولا عظم بخيل ولا قدم ذليل ولا فحم نبيل ولا حقر جليل ولانال العبادة من زهد في الافادة ولا أمن في الآخرة من سر بالدنيا الساحرة ولا سدد من ظلم ولا حرم من حلم ولا حزم من ندم ولا خاف من تاب ولا رد من أناب ولا هجر من لزم الباب ولا ذل من اتبع الصواب واعلم أن بالسياسة تدوم الرياسة وبالعدل تدوم الدول وبالجور هلك الاول وبقلة التدبير يحصل التبذير ومن بذل جهده كملت أوصافه ومن افشى السلام فضله الانام واصلاح السريرة نعم السيرة وجمال الانسان فصاحة اللسان وزينة الرجال كرم الخلال وخير الاصحاب التقوى وشر الاخوان اتباع الهوى ولا خاب من قصد طوره ولا ارتفع من جهل قدره والتعلق بالآمال ضياع الاعمال ومعالي الاخلاق نعمت الرفاق وممارسة الحلال نجاة من الاهوال وحب العاجل يبيد الآجل وارتكاب العصيان علامة الخذلان وعلامة التوفيق تيسير الطريق والنظر في العواقب أمن من المعاطب ومن نظر إلى الدنيا بعين الفنا أدرك في الآخرة ما تمنى واعلم يا أخي إنك قد أصبحت مقيدا بحب الدنيا سابحا في بحار أهوالها متعلقا بأذيال محال آمالها وقد تزينت لك برياشها ووقفت لك على قدم احتياشها وزوت عنك جل مصائبها ونصبت لك شبكة مصايدها ووضعت لك تاج شهواتها على مفرق رأس آفاتها حتى إذا أشرت اليها بالوصال منحتك لذيذ الاتصال وأحسنت لك صحبتها شهرا ورمتك بسهام الهجر دهرا وطالبتك بما كتبت عليك مهرا حتى إذا علمت إنك غريم الانغاص غير منقاد للقصاص ألقتك في بحر الآفات وحجبتك في سجن الغفلات وصغرت أمرك عند الناس ووكلت بك سحائب الوسواس فلا تبرح تذكر الانسان بما كان فيه حتى تخرج روحه من فيه واعلم أن من جملة ما ذكر لنا عن عيسى ابن مريم عليه السلام أنه راى طائرا مليح الشكل حسن الريش كامل الزينة.فقال من أنت قال أنا الدنيا ظاهري مليح وباطني قبيح قال عيسى عجبت لغافل ليس بمغفول عنه ومؤمل اتمام شيء والموت يطلبه وإنما ضربت لك هذه الامثال لتتعظ بها وبما نزل بالملك شهرياض كان بالامس على السماط واليوم نزل على.الصراط بالامس كان في سلطانه وملكه يباهي واليوم صار في الحفر واهي ما أفاده الغنى أذهبه الفنا وذهب الفرح بالترح والنوم على السرير بالنوم على العفير ومعانقة الاتراب بالتعفر في التراب وبدل عن خل ودود بمجاورة الدود جار وما أجار واشتغل بالدار عن الجار بالرماد عن المهاد وانظر بأي سنان بتر وبأي آلة كيف هجر وصار قصره مهجورا وعمارته خرابا بورا وتبدل السرور بالثبور ما نفعه الجيش وكثرته ولا الخزائن وعدته أصبح والله ذليلا وبعد الكثرة قليلا فلا عمل صالح ولا عز راجح ولا ثواب ينفع ولا جميل يدفع وقد بقي مرتهنا بأعماله موثقا بأفعاله وأنت تريد أن تسلك مسلكه وتتبع سبيل ما أهلكه فما أحد ينفعك ولا عمل يتبعك اتق الله في نفسك وفي أهل ملتك وبلدتك واعقد لك مع هؤلاء العرب صلحا واقبل ما قلت لك نصحا واحقن الدماء وارحم النساء والاماء وأسلم تسلم وهؤلاء القوم ما قالوا: قولا إلا وفوا به لأن الصدق دليلهم والإيمان يقينهم ما هم ممن يطلبون الملك فينازعون عليه ولا يميلون إليه بل طلبهم الآخرة وما عندالله وبالامس وفوا لرودس صاحب حران ورجع عن دينه ودخل في دينهم وكذلك الملكة مارية بنت أرسوس وقد دخل في دينهم جبابرة ملوك الروم مثل يوقنا ويرغون وعمودا وميتا الذي هو أعلم منا بديننا وقد ملكوا الأرض في الطول والعرض وإنما يحاصر عن نفسه من له ميرة وعدد وجيش وسلاح وعدد يقدر على محاصرة البلد وهذا بلد عظيم وما فيه ما يقوم بأهله سنة أو اقل فإن لم تسلم أنت سلم أهله وسلموك إليهم برقبتك وهذه حران لهم وكفرتوتا والرها وسروج وسجستان وماردين والصور والخابور وما عدا الفرات إلى الشام إلى أرض مصر وجيوشهم قد طبقت العراق وملأت الآفاق وقد بلغني أن الملك كسرى قد عاد إلى المحاق فابعث إلى أمير هؤلاء العرب واطلب منه الصلح فإنه يعطيك وتربح نفسك ومالك وأهلك وولدك وعش في ظل القوم أن شئت على دينهم وإن شئت على دينك فإنهم لا يغضبونك قال فلما سمع مرسيوس كلام أخيه الحيكم ارسالوس غضب عليه وضربه بمقرعة كانت في يده وقال أنت ما خلقك المسيح إلا ذليلا وكيف تأمرني أن أسلم ملكي للعرب وتعرضني للعطب اخرج يا ويلك عني فإن وقعت عيني عليك بعدها قتلتك.قال فخرج من عنده وهو غضبان وأما اللعين مرسيوس فإنه أمر أرباب دولته أن يجتمعوا في كنيسة بيعة نسطوريا حتى يحلفهم فمضى شاويشه فجمعهم وجمع مشايخ البلد وكبراءها وأحضر القسوس والرهبان والشمامسة وبترك دير مقرب حتى يستحلف أهل المدينة فلما حصلوا في البيعة أغلقوا أبوابها حتى لا يدخل إليهم أحد من العوام وحصلوا كلهم فجلس الملك والبترك وشرعوا يحلفونهم وهم آمنون مطمئنون إذ خرج عليهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بكل سيف مسلول وعزم غير محلول وصاحوا بالتهليل.والتكبير ونادوا نحن أمة التنزيل وأصحاب النبي الجليل نحن حملة القرآن وصوام رمضان قد أخذ الله منكم بذنوبكم وهتك ستوركم وعصفت عليكم المحن أين الصلبان وعبادتها اين الصور وحشمتها أين تقريب القربان اين تدبير الرهبان ادعوا أربابكم ينصرونكم هيهات والله ذهب باطلكم وهلك بالشرك جاهلكم واضمحلت ايامكم وذهبت دولتكم ووضعوا فيهم السيوف وعجلوا بهم الحتوف وقتلوا البطارقة بالنية الصادقة فماتوا عن آخرهم فلما رأت الروم ما نزل بهم ضجوا وبأصواتهم عجوا فقال خالد: أولياء الله جودوا الضرب في أعداء الله وأهريقوا دماء من أشرك بالله قال فقتلت الطرامخة وذوو الحشمة الشامخة فلما بلغ الخبر العوام انهزموا عن الأسوار لما حل بقومهم البوار ودهمتهم الأقدار فذهب دامس إلى الأبواب ففتحها فدخل المسلمون بالتهليل والتكبير ولم يزل القتل يعمل في رأس العين وقد وردوا موارد الحين وناح عليهم غراب البين وأيدت شريعة سيد الكونين.قال الواقدي: ولم يؤخذ من ديار بكر بالسيف إلا رأس العين قال: وأخرج الخمس من المال وأرسله إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وكتب له كتابا يقول فيه بسم الله الرحمن الرحيم من عياض بن غنم الأشعري إلى أمير المؤمنين عمر بن الحطاب رضي الله عنه سلام عليك فإني أحمد الله الذي لا إله إلا هو وأصلي على نبيه أما بعد فإن الله قد فتح علينا يسير ما كان عسيرا وكان لعدة الفتيان شعاع يخطف العيان فلما تضايقوا أمامي وازدحموا قدامي عاينت جيشا كثيفا وسدا منيفا قد اقبلوا من ألافواج وتتابعوا كالامواج وتناصروا من كل صوب واشتهروا في كل ثوب والحديد يتالق كالحريق وقد تطايرت السيوف فللا والأرماح كعوبا وانقضت المدة وقد وضعت الحرب أوزارها وانطفأت نارها بعد ما قتل المسلمون أهل الطغيان الفاسقين ونصر الله الكفارة وخذلت العتاة وولت الأعداء الأدبار وأراحنا الله من مضرتهم وطهرت البلاد من كفرهم وكان زعيمهم الخائن وملكهم أول مخذول وأهون مقتول وبعد ذلك فتحنا رأس العين ونحن بعد ذلك معولون على ديار بكر والله المعين وبه نستعين والسلام عليك وعلى جميع المسلمين واقرأ سلامنا على قبر سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم ثم طوى الكتاب وختمه وسلمه مع الخمس لعبد الله بن جعفر الطيار وضم إليه مائة فارس من المهاجرين والأنصار فسار عبد الله ومن معه وأقام المسلمون على رأس عين شهرا وعمل بيعة نسطوريا جامعا وصلوا فيه وبنوا الكنائس مساجد وترك عرفجة بن مازن العامري عليها واليا ومعه مائة فارس وأخذ مال الرها وكفر توتا فأخرج منه الخمس وأرسله بعد عبد الله بن جعفر مع سلامة بن الأحوص ومعه خمسون فارسا.
|